احلى استايل الادارة
عدد المساهمات : 741 نقاط : 7753 السٌّمعَة : 7 تاريخ التسجيل : 29/08/2009 الموقع : في قلب الابداع
ثقافية العضو المميز: (0/0)
| موضوع: الحلقة 3 من رحلة القران العضيم الجمعة أكتوبر 23, 2009 7:54 pm | |
| احلى استايل يقدم:
المعلق:
حمل المسلمون من جزيرتهم العربية وبلاد الشام قرآنهم العظيم إلى إفريقية، وكان مع الفاتحين في قراطيسهم وقلوبهم، يلهجون به ليلاً ونهاراً، ويطربون لسماعه في كل حين، وكان دوي صوتهم به يرعب الأعداء ويشفي صدور قوم مؤمنين، ولما كان هذا القرآن عربي اللسان صوتاً وخطاً فقد حمل حروفه الفاتحون إلى كل مكان وصقع حلوا فيه.
وفي سنة خمسين للهجرة وجه الخليفة معاوية بن أبي سفيان جيشاً لإفريقية على رأسه عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري.
وانتصر عقبة على البربر، ودخل معه منهم من دخل في الإسلام، وعينه معاوية والياً على إفريقية، ففكر عقبة في إنشاء مدينة محصنة تكون مركزاً لعملياته الحربية وداراً للتموين والسلاح لمتابعة الفتح، وملجًأ أميناً للجند العربي من تآلب البربر، واختار لذلك مكاناً قريباً من تونس الحالية مملوءاً بالغابات وكانت مدينة القيروان.
واختط عقبة المدينة على نهج المدن المعسكرات، فاختط في وسطها المسجد الجامع، ثم دار الإمارة، ثم بيوت الجند، وبنا حولها صوراً متيناً، واستمر العمل في بنائها أربع سنوات، وكان اهتمام عقبة ببناء الجامع أكثر من بقية أحياء المدينة حتى قيل: لم يبني عقبة مدينة لها جامع بل بنى جامعاً له مدينة.
وقصد عقبة أن يكون الجامع قيرواناً، أي معسكراً وحصناً، واختار مكان قيروانه بعيداً عن شاطئ البحر ليكون المسلمون في مأمن من أسطول الروم وغارات الفرنجة التي كانت تنقض على تونس من صقلية وإيطاليا واليونان، فتحتل وتخرب مدن الساحل مثل سوسا وجربا.
وقد قال له أصحابه حين فتش عن مكان المدينة الجديدة: نحن أصحاب إبل، ولا حاجة لنا بمجاورة البحر.
وكانت الصحراء التي أنشأ فيها المدينة أشبه بصحراء جزيرة العرب، ولن يشعر الجندي العربي بالغربة فيها لما لها من مزايا البيئة الجغرافية العربية.
وبذلك أصبحت الغابة الكثيفة التي كانت مرتعاً للوحوش والزواحف، أرضاً مستوية تقوم فوقها تلك المدينة الزاهرة التي لا تزال آثارها قائمة حتى يومنا هذا.
وقد اتخذها الفاطميون في أول تأسيس دولتهم عاصمةً لهم، ثم انتقلوا إلى المهدية، فالقاهرة بعد أن أسسها لهم قائدهم "جوهر الصقلي".
ومن بعدهم اتخذها ملوك الصنهاجيين مقراً لهم، كما كانت منزلاً لأهل قريش من بني فهر وبني تميم وبني هاشم، وفيها مدافن عدد من الصحابة.
لقد كان سكان إفريقية الشمالية من البربر يعيشون على البداوة، وكان لهم بالرغم من بداوتهم كتابة تسمى "فيناج"، لم تزل مستعملة لدى الطوارق في الصحراء الجزائرية حتى الآن.
لم يمضي القرن الهجري الأول حتى كان الإسلام عزيز الجانب موطد الأركان في كل أنحاء المغرب، ودخل في الدين الجديد آلاف البربر، وشحذوا هممهم لتعلم القرآن العظيم، واستهل القرن الهجري الثاني وإذا أفواج من الدعاة والعلماء والفقهاء تفيد على أرض المغرب، فانصهر البربر في المجتمع الجديد، وتحولوا عن حروفهم ومعتقداتهم ونبذوها وراء ظهورهم، وتعلموا شريعة الإسلام، وهجروا حروفهم، وأقبلوا على حروف القرآن العظيم بخط عربي جميل، وبعشق يتناغم من الجدة في المعتقد ويتأصل مع كلام رب العالمين.
وتأسست في أواخر القرن الأول للهجرة جامعة ذائعة الصيت في القيروان، فقصدها طلاب من كل الأنحاء ووفد إليها علماء أجلاء من مدارس الكوفة والبصرة.
قال عنها المراكشي: وكانت القيروان هذه في قديم الزمان منذ الفتح إلى أن خربتها الأعراب دار العلم بالمغرب إليها ينسب أكابر علماءه وإليها كانت رحلة أهله في طلب العلم، ولئن كان التطور الحرف العربي، والخط العربي عبر ثلاثة قرون في أحضان المصحف، وكان تحوله من اليابس إلى اللين على يد الوزير أبي علي بن مقلة، فإن الليونة في الخط جاءت عبر رسائل التدوين التي خطت منذ القرن الهجري الأول وأخذت شكلها في القرن الخامس وتحولت إلى نسخ بديع.
ولئن كان ذلك قد حدث في مشرق العالم الإسلامي في حاضرة المسلمين بغداد، فإن الكتابة والخط المغربي اللين قد اشتق مباشرة من الخط الكوفي الجاف اليابس.
وكان هذا الاشتقاق في نفس الفترة الزمنية التي شاع فيها استعمال الخط اللين، المشرقي، ولم يكن لليونة المشرق أي أثر في ليونة المغرب، الذي ظل محافظاً على هيكل يبوسته حتى الآن.
ولقد أصاب "هوداس" فيما ذهب إليه في بحثه محاولة في الخط المغربي من أن المغاربة مع اتصالهم بالمشرق لم يستجلبوا الخط اللين؛ لأنهم توصلوا إلى تبسيط خط الكوفة، وإخضاعه لأغراض تدوين القرآن العظيم.
ولأهل المغرب اعتزاز بما توصلوا إليه من تطوير في الخط الكوفي إلى اعتبار الخطوط المشرقية أقل مستوى من خطهم المغربي الذي تواءم مع إملاء مصحف الإمام، وخضع لتطورات الشكل بالنقط، وإلى استخدام ألوان مخالفة لما في المصحف الذي كتب ببغداد.
لم يرفض المغاربة كل ما جاء إليهم من المشرق، فقد قبلوا ترتيب الحروف الهجائية مع اختلاف يسير، واستعملوا نقط الإعجام، مع نقط القاف بنقطة واحدة من الأعلى والفاء بنقطة من الأسفل.
واستعملوا الشكل لبيان الحركات الإعرابية بطريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي، وانفردوا عن أهل المشرق بتجريد حرفي القاف والنون من النقط من الإفراد والتطرف؛ لأنهما لا يلتبسان بحروف أخرى، ولم يكتبوا أسماء السور كما عهدناه في المصاحف المشرقية بخط كوفي مورق مشجر وإنما ابتكروا له نوعاً خاصاً، أطلقوا عليه اسم "خط الثلث المولدي" من "خط الثلث المشرقي" مع استدارات تتواءم مع الخط المغربي.
وكما المشرق فقد ظلت المصاحف المغربية حتى القرن الخامس الهجري تكتب بخط كوفي يابس، أطلق عليه اسم الخط القيرواني، ونلاحظ فيه تطوراً واضحاً نحو ليونة الحرف مع استعمال اصطلاحات خاصة بالمغرب كجرة الوصل التي تثبت في المصاحف المغربية، ولو تتبعنا الخط اليابس في الكتابات المغربية في المصاحف وغيرها لملاحظة تطوره نحو الليونة المتفردة المستقلة لرأينا ذلك من خلال الوثائق التي ما زالت محفوظة في المكتبة الوطنية بتونس.
ونرى في الوثيقة هذه مثالاً لخطوط يابسة تعود لسنة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائة، وفيها عرقات النون وأشباهها قد تقوست وخالفت أصلها اليابس في حرف السين والراء، في السطر الثاني من الوثيقة.
ولقد رسمت الألف على استقامة واحدة من دون عقفة نحو اليمين كما في الكوفي المشرقي المحقق، كما تنحدر الألف المنفصلة عن مستوى السطر فتكون زائدة كوفية، وهي من ميزات الخط المغربي الذي ما زال إلى الآن، ولعل ذلك راجع إلى رسمها من الأعلى، ولهذه الزائدة أصل في الكتابات الكوفية قبل القرن الثالث الهجري، والكتابات الأنباطية قبل ذلك.
وفي المكتبة الوطنية بتونس أيضاً أوراق من مصاحف عثر عليها في مسجد القيروان، تمثل بداية تحوير اليبوسة إلى الليونة، وفي هذه الوثيقة المكتوبة على الرق نقرأ: ? وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ?134? قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ?135?? [طه: 134، 135].
? اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ?1? مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ?2? لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ ...? [الأنبياء: 1: 2].
في هذه الوثيقة المكتوبة على الرق نشاهد بوضوح عراقات النون والياء وأشباههما بأشكال دائرية إلا أن الخطاط لم ينسى أصلهما الجاف، فاستعملهما عند الاضطرار لضيق في آخر السطر، ومثالهما في كلمتي "متربص" "السوي" من آخر السطر الأول والثاني.
أما اللام المتطرفة فلم يقع بها تغيير.
واستعمل هنا الشكل أبا الأسود الدؤلي ونقطه، فالنقطة الحمراء فوق الحرف للفتحة، وتحته للكسرة، والمتراكبتان للضم، والنقط الأخضر للهمزة، ولا وجود للإعجام إلا في حرف الياء من السطر الأخير "يلعبون" "لاهية".
كما تفصل الآيات دوائر فيما بينها، ويبدوا أنهم أجازوا نقط التاء والياء كما رواه الداني فقال: كان القرآن مجرداً في المصاحف فأول ما أحدثوا فيه: النقط على الياء والتاء، وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا فيها نقطاً عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.
ونلاحظ في هذا المصحف أيضاً مخالفته للرسم العثماني الذي حافظ عليه المغاربة في كل عهودهم، وذلك في كلمتي "أصحاب" و"صراط".
والأصل في كتابتهما بالمحذوف، وفي الوثيقة التالية التي جاءتنا من مكتبة جامع القيروان وهي من مصحف لم يتبقى من أوراقه سوى ستمائة وألفي ورقة تحتفظ بها المكتبة الوطنية بتونس، وكتبت على خمسة أسطر وبالخط الكوفي القيرواني الريحاني.
وكتبها وجلدها علي بن أحمد الوراق القيرواني لفاطمة الحاضنة سنة 410 هجرية.
نلاحظ انسياب الحروف وجمالها، ودقة التوزيع والتنسيق فيما بين الأسطر، ونقرأ من سورة البقرة: ? اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ? [البقرة: 255].
إن أثر الجودة والعناية واضح في تنوع منبسطات الحروف مع الألفات الموزونة الطول ودقة الفراغ بين الصواعد وسائر الحروف.
وامتاز المصحف في أوراقه وحروفه بالشكل المثلث الكبير للحروف ذات الرؤوس كالواو والميم والهاء، وكذلك السين والدال، وليتحد شكلهما مع الحروف الأخرى، ورسمت عيون هذه الأحرف دوائر صغيرة مفتحة ومن ميزات هذا المصحف أننا نشاهد حرف الألف بعقفته نحو اليمين، ونرى الألف المتصلة، وحرف الدال وفيهما طرف ينحدر عن مستوى السطر، وعراقة الراء والميم خط دقيق بجانب القلم، وميل في ألف حرف الطاء وكأنما تشبه حرف الكاف، واستقامتها في ثلثها الأعلى، ونلاحظ أيضاً كبر رأس العين في جميع الحروف، وسيبقى هذا الأثر واضحاً في جميع المصاحف التي ستأتي من بعد.
وللألف لام ميلان نحو اليمين في الألف المركبة على اللام، ولقد اتبع الخطاط ابن الوراق في هذا المصحف طريقة الخليل بن أحمد في الشكل من ضم وفتح وكسر وشدة، وجعل رأس الهمزة رأس عين صغيرة. وابتكر للمدة صورة وضعها في رأس الألف في قوله: ? بِمَا شَاءَ ?، وابتكر للصلة جرة، جعلها إتباعاً لموقع الحركة، وهو ما تمتاز به المصاحف المغربية عن غيرها، وإن نظام بدايات السطور ونهاياتها واتزان الحروف واتصالها ببعضها لا يدل على تمكن يد الخطاط وذوقه الرفيع.
ويتجلى في رسم الحروف ذات الرؤوس في شكل مثلثات، وإخضاع حروف أخرى لهذا الشكل، والكلمات أيضاً، وابتكر ياءً راجعة في قوله ? الْعَلِيُّ ? بعد أن نسق الفراغ فيما بين أعلى الكلمة وأسفلها.
إن هذا الفراغ الذي يفصل الخطوط المستقيمة بدقة واستواء لهو امتحان لبراعة الكاتب وإجادته، وهذه القاعدة التي اتبعها في هذا المصحف من تنسيق البياض بين أجزاء الحروف الضخمة لهي من الأساليب المتبعة عند أهل المغرب، وفي كتاباتهم عبر الزمن الطويل.
ولقد كان للخط العربي تأثير في الكتابة الكوفية منذ عهد الأندلس، ومنهم شاع هذا التأثير في الأساليب الخطية الغربية اللاتينية، إنه القرآن المعجز في كل جوانبه.
تأخرت كتابة المصاحف الشريفة في المغرب والأندلس وتأخر تدوينها أكثر من قرنين من الزمان عن تدوينها في المشرق، وأقدم المصاحف التي جاءتنا من الأندلس أو المغرب لا يتعدى القرن الرابع الهجري، وكان أهل إفريقية والأندلس يسيرون في كتابتهم مسيرة أهل المشرق، ويحذون حذوهم في استخدام قلم الكوفة المحقق اليابس، وينقطون الحروف ويعجمونها على طرائق أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي مع بعض التبديل والتغيير والتعديل.
ولما غدت القيروان حاضرة المغرب ومهبط الفن في إفريقية وشبه الجزيرة الليبيرية انتقل إليها كتاب وعلماء وفنانون ومزخرفون ومذهبون.
وقامت في المغرب نهضة خطية لا مثيل لها، وأسست مناهجه ومدارس ومذاهب في الكتابة لا علاقة للمشرق بها.
وتميزت بلاد الأندلس عما هو في بغداد في دخول المرأة هذا الميدان ونوالها شرف الكتابة، كتابة المصحف الشريف، وكانت النساء الأندلسيات في الدواوين يعملن كاتبات وخطاطات، يعملن مع لبنى بنت الخليفة المستكفي.
وكانت فاطمة العجوز تنسخ لها بخطها الجميل الكتب وتخرجها مذهبة رائعة.
وممن اشتهرت من النسوة ونالك شرف كتابة المصحف العظيم عائشة بنت أحمد وراضية مولاة عبد الرحمن الناصر لدين الله.
وجاء في تاريخ الموحدين لدوزي أنه كان فقط في الروض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة لنسخ المصاحف، ومنهن من يتمتعن بالخط الجميل، ويحق أن يحملن لقب ميفنة.
لقد كان المغرب في النصف الثاني من القرن السادس الهجري تحت حكم الموحدين، بعد انقراض دولة المرابطين بقتل آخر ملوكهم "تاشفين بن علي" سنة 539 هجرية، والموافق لسنة 1145 ميلادية.
ويعد القرن الثاني عشر الميلادي عصر إمبراطورية الموحدين بلا جدال، أكبر إمبراطورية شهدها غرب البحر الأبيض المتوسط.
نشأت دولة الموحدين على يد محمد بن تومرت الملقب بالمهدي، ودعى إلى القضاء على دولة المرابطين، ولما توفي سنة 524 هجرية بايع أصحابه تلميذه عبد المؤمن بن علي الذي استولى على مراكش، وفتح بلاد إفريقية ومد نفوذه إلى برقة، وخرج للجهاد في بلاد الأندلس، وفي عهده أمر بإخراج المصحف الإمام من قرطبة سنة 552 هجرية، وهو أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الأمصار.
وقد اعتنى به الموحدون كل الاعتناء، وأقاموا له كل زينة من تذهيب وكسوة، وقد تحدثنا عنه مفصلاً في حلقات سابقة.
نجح عبد المؤمن خليفة بن تومارت في أقل من ثلاثين سنة في توحيد المغرب وغزو الأندلس والسيطرة على بني هلال في الجزائر، وإعادة السلام إلى تونس، فأصبح يدعى له على المنابر من طرابلس حتى قشتالة، وسرعان ما وضع نظاماً إدارياً حازماً استمده من النظام الأندلسي.
ونشر الحضارة الإسلامية الأندلسية في شمال إفريقية وشجع خطاطي المصاحف وقدم لهم المكافآت المجزية، وشاع في عصره البنيان متألقا بطرازه الإسلامي واضحاً في هيئته ونمطه، ومثال ذلك مئذنة جامع القطبية، ومساجد تازة وتمال.
ووصل خلفاؤه صنعه، فأكمل أبو يعقوب المنصور قصرة مراكش وأنشأ الحصن الموحدي، وشرع في بناء مئذنة ومسجد حسان بالرباط، وخص الأندلس بأعمال بلغت حداً كبيراً من العظمة، مثل الخرالدا وسور القصر.
تولى الخلافة يوسف من سنة 558 هجرية، فسار للأندلس وقاتل الفرنجة، وتوفي فيها متأثراً بجراحه سنة 580 هجرية، وكان عالماً شديد الاحتفال بالعلماء ففي عهده ظهر ابن رشد الشهير، وجاء من بعده يعقوب وسار للأندلس مرتين انتصر فيهما في موقعة الأرك سنة 559 هجرية.
لم يكن الأمراء والموحدون من بعد يعقوب بمثل قوة آبائهم وشجاعتهم وجهادهم، فضعفوا وحل محلهم المرينيون في مراكش، ودولة بني عبد الواد في الجزائر، وبني حفص في تونس، ويمتاز عهد الموحدين في الأندلس منذ عبد المؤمن بشيوع كتابة المصاحف الشريفة، ونبوغ آل غطوس في فالنسيا كما شاهدنا ذلك في حلقات ماضية.
أفل في المغرب العربي قمر الموحدين، وسطعت شمس المرينيين، لتصور اللحظات الأخيرة للتجمع المغربي الأندلسي.
والمرينيون من زناتا، وينتسبون للأمير عبد الحق بن الأمير محيو، وهو أمير ابن أمير إلى جد مرين، دخل المغرب من الصحراء من ذا بإفريقية موضع إمارته عام 610، وانضمت إليه قبائل البربر مطيعين له، فعظم سلطانه واتسع ملكه، ودامت إمارته 22 سنة، وقتل سنة 614 هجرية.
وفي عهد حفيده علي تمت معاهدة الصلح مع الأسبان، اشترط فيها إعادة المخطوطات من المصاحف الثمينة والكتب إلى قرطبة وإشبيلية، ولما تسلمها حبسها على المدرسة التي أنشأها في فاس، واعتنى بتأسيس المدارس حول جامعة القرويين، واشتهر بنسخ ثلاث مصاحف أهداها للبيت الحرام، ومسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمسجد الأقصى.
ويذكر المقري نقلا عن ابن مرزوق أنه أهدى نسخة من المصحف الشريف بخطه للملك الناصر قلاوون.
لم يكن المغرب خلال هذه الفترة يسير على ما جاء به المشارقة من رموز في المصحف الشريف، وإنما كانت لهم شخصية مستقلة آثروا بها التميز في كتابة القرآن العظيم، وممن اشتهر منهم في قرطبة وكانت من أكثر البلاد التي استنسخ فيها القرآن العظيم محمد بن إسماعيل الذي يكتب المصحف في أسبوعين، ومنهم خلف بن سليمان وكان متخصصاً في نقط المصاحف لإتقانه علم القراءات.
وهذا يدل على أن نساخ المصاحف كانوا ينقسمون إلى فئات، فمنهم من يكتب الحرف، ويأتي من بعده من ينقط عن علم ودراية.
وللنقط فنون وعلوم، والألوان فيها تأخذ جل المعاني فالأصفر والأخضر والأحمر واللازبرد وغير ذلك كل منها له دلالة ووظيفة، وكل دائرة لها معنى ولها اصطلاح واشتهر في طليطلة نصر المصحف، وابن مفضل من أهل مالقة الذي كتب سبعين مصحفاً كاملاً، ومحمد بن حكم بن سعيد الذي أجاد في كتابة مصاحفه، وكان الناس يتنافسون على اقتناء مصحف من خطه.
وأورد ابن الأبَّار المؤرخ الفلنسي عدداً كبيراً من كتبة ونساخ المصاحف من أهل فلنسيا وغرناطة في القرن السابع والثامن الهجريين، وتقول المصادر الأسبانية التي احتفظت بوثائق مصحفية مؤرخة سنة 900 وبعد أن انتهت حركة الاسترداد ظل بين ظهرانينا المورسكيون، الذين حافظوا على مصاحفهم، وتعليمهم الديني، وكتبهم ومخطوطات الأجداد التي تركوها، ولكن بقدر ما تسمح الظروف لهم، وبقدر الزمن الذي كانوا يعيشون فيه، وقد قاومنا مسألة تعليم القرآن مقاومة عنيفة، وأدت أوامر التحريم المتكررة اعتبار هذا الميل جريمة، وانتهى بطرد المورسيكون من أسبانيا، والموريس اصطلاح أسباني أطلق على اللاجئين المسلمين وهي مرادفة لاصطلاح المدجلين الذين استكانوا وبقوا بعد سقوط آخر دولة إسلامية في الأندلس.
لقد حفظ التاريخ لنا بعضاً من الوثائق والمخطوطات والمصاحف نرصد من خلالها مسيرة التطور في الرسم القرآني المصحفي المغربي والتي تختلف قليلاً عن مسيرة التطور في مصاحف أهل المشرق.
وبين أيدينا وثيقة من مصحف يعود لفترة ازدهار الحضارة في المغرب والأندلس، وتحتفظ به مكتبة الأوسكريال، وكتب على الرق وهو من القرن السادس للهجرة، ونقرأ في الوثيقة من سورة المرسلات ورأس سورة النبأ والبسملة: ? وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ?42? كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ?43? إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ?44? وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ?45? كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ ?46? وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ?47? وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ ?48? وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ?49? فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ?50?? [المرسلات: 42: 50]، سورة النبأ أربعون آية، بسم الله الرحمن الرحيم.
نشاهد في هاتين الصفحتين طرازاً جميلاً لحرف متطور عن الكوفي اليابس، وفيه من الليونة ما يدل على النظرية التي كنا قد أشرنا إليها فيما مضى، وهي أن الخط المغربي تحول مباشرة عن الكوفي اليابس، بعكس ما جرى مع المشرق حين تطور النسخ عن خط الرسائل اللين.
كما نشاهد في هذه الوثيقة الحفاظ على الرسم العثماني وهي ميزة تميزت بها المصاحف المغربية والأندلسية، فلم تخالف رسوم المصحف الإمام، وإنما بقيت محافظة عليه طيلة الزمن الطويل.
كتب هذا المصحف بمداد لون بني ووضع رسوم الشدة والسكون بلون أزرق.
وقد يتساءل المرء عن اختياره للشدة والسكون لوناً واحداً، وحين نعلم أن الخطاط كان على علم بالعربية والتجويد يزول التساؤل، وهذا من توافق المبنى مع المعنى، فالشدة عبارة عن حرفين ساكن فمتحرك، والسكون ساكن هادئ، فتوافقت الشدة وتآلفت معه ؛ لأنها من ذوات الصوت الخفي، ولن ينسى الناسخ أن يضع حرف ميم للإقلاب، وبلون أزرق وهي توحي بالسكون أيضاً ففي قوله: ? هَنِيئًا بِمَا ? نلاحظ حرف الميم باللون الأزرق، وكذلك في قوله: ? حَدِيثٍ بَعْدَهُ ? ونشاهد في هذه الوثيقة أيضاً الخلاف في الرموز المشرقية، وهي الفوارق التي نأى بها المغاربة عن المشارقة فنقطت الفاء بنقطة من الأسفل، ونقطت القاف بواحدة، وأما الضمة فقد رسمت حرف راء بدل الواو، وهي مأخوذة من فعل "رفع"، وشكلت الحروف باللون الأحمر على طريقة الخليل، والفتحة رسمت مستقيمة، كما وضعها الخليل ألفاً مبطوحة مالت مع مرور الزمن، وأما الهمزة فقد رسمت نقطة صفراء برتقالية، ووضعت كلمة مد في? هَنِيئًا ? رمزاً للمدة، ورسمت دوائر ثلاث فواصل بين الآيات وهي مضفورة تنبئ عن بداية تطور الفن الزخرفي، ورسم حرف الهاء بالذهب نهاية كل خمس آيات دلالةً على التخميس.
وفي الحاشية مرصعات أيضاً وضع في داخلها كلمة "خمس"، وذهب اسم الصورة بقلم الكوفي المتطور عن المحقق، ونشاهد حرف العين في أربعون مفتوحاً على سنة القرن الهجري الأول، ولتبيان حرف الألف المحذوف في رسم المصحف أضاف حرف ألف باللون الأحمر لضرورة النطق السليم، وهذا ما نلاحظه في ? وفواكه? و? كذلك? وفي ?الرحمن?.
ومصحف آخر يسير على نفس النسق مكتوب على الرق نقرأ فيه من سورة الأعراف: ? ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ?55? وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ?56? وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ ?57?? [الأعراف: 55: 57].
كتبت حروف هذا المصحف بمداد لون بني ضارب للحمرة وخطه أندلسي مغربي، استخدم فيه الخطاط دائرة خضراء للدلالة على همزة الوصل، وهو ما شاهدناه أيضاً في المصحف من قبل.
ونهج فيه ذات النهج فاستخدم الشدات والسكنات ورسمها بلون أزرق، في حين استخدم النقطة الصفراء لهمزات القطع، واستخدم النقطة الواحدة لتدل على نهاية الآية، ورسم على الحاشية ثلاث نقط دلالة على نهاية الآية، وبين أيدينا مصحف نادر جداً صغير الحجم كتب على الرق وبخط مغربي أندلسي وبالحبر البني الفاتح اللون، ويحتوي على ست صفحات مزخرفة بشكل هندسي ونباتي، وفيه من الدقة ما يعجب له الإنسان.
وأسماء السور في هذا المصحف كتبت بالخط الكوفي المغربي، وتنتهي برصائع على هامش الصفحة دائرية الشكل ملفوفة ببعضها، ونلاحظ الهامش وقد اكتظ بالأشكال، وهي تحمل شكل رأس السورة ورموز الأخماس والأعشار، وفي الصفحة اليمنى وفي القسم العلوي نشاهد شارة بدء العشر الثامن، وهذه التقسيمات التي اعتنى بها المسلمون عناية بالغة حين قسموا المصحف لأجزاء وأرباع وأحزاب، وقد رسم المذهب الشكل على شاكلة نافذة لتطل على العشر الثامن، وتحمل الحواشي أشكالاً هندسية ضمن دوائر تحمل رمز السجدة، وقد كتبت بالذهب على أرض زرقاء، ونلاحظ في هذه الصفحات بالرغم من صغرها دقة الفن في جماليات القرآن العظيم.
ونشاهد سورة العصر وسورة الهمزة، وسورة الفيل، وسورة قريش، وسورة الماعون، وسورة الكوثر، وسورة الكافرون، وسورة النصر، وسورة المسد، والإخلاص، والفلق، والناس. |
|
|
| |
|