احلى استايل الادارة
عدد المساهمات : 741 نقاط : 7753 السٌّمعَة : 7 تاريخ التسجيل : 29/08/2009 الموقع : في قلب الابداع
ثقافية العضو المميز: (0/0)
| موضوع: الحلقة 2 من رحلة القران العضيم الجمعة أكتوبر 23, 2009 7:53 pm | |
| احلى استايل يقدم:
المعلق:
قال تعالى: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ?9?? [الحجر: 9]، وعد إلهي ولا يخلف الله وعده بأن تظل كلمات القرآن العظيم محفورة في القلوب قبل أن تخط في الصحائف والسطور.
ولقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ بدء التنزيل بالرغم من حفظ آيات رب العرش العظيم في الصدور أن تخطى وتحفظ لتكون الكتابة صنو القراءة والحفظ.
ومرت الأيام سراعاً ودوِّن القرآن العظيم في السطور، وتطور الخط العربي في أحضانه وأصبح فناً لا يجارى، وولدت علوم وصنائع كان أهمها صناعة الكتاب وما احتواه من فن التجليد والتقشير ومن قبل صناعة الورق.
كل ذلك خدم الثورة الثقافية والدعوة للعلم التي جاء بها الإسلام، وكانت آياته الأولى التي تتنزل تدعو إلى ذلك ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ?1?? [العلق: 1]، ولم يمض نصف القرن حتى أصبح المصحف الشريف في لبوس موَشن يحفه الجمال والكمال في الهيئة التي صاغها الإنسان المسلم شرفاً وعزة وتعظيماً لكتاب الله -عز وجل-.
وكان أول من أجاد وحسن وطور في خط المصاحف خالد بن أبي الهياج، الذي كان منقطعاً لكتابة المصاحف للوليد بن عبد الملك، وجاء من بعده مالك بن دينار المتوفى سنة 131 هجرية، ثم جاء قطبة المحرر إلى أن ظهر ابن مقلة وطور في الخط اللين، وكتبت المصاحف بالخطوط اللينة، ولقد جاءنا من القرون الأولى مجموعة من المصاحف من مشرق الأرض ومغربها، استعرضنا أغلبها في الحلقات الأولى من البرنامج، وشاهدنا أجودها وأجملها ولاحظنا التطور الذي طرأ على رسوم العربية عبر القرون، وبين أيدينا صحيفة متبقية من مصحف شريف كتب على الرق بالخط الكوفي المحقق المذهب المسور بمداد السناج.
وقد استخدم فيه كاتبه قواعد أبي الأسود بالألوان، مما جعل الصفحة ذات بريق رائع وحسن أخاذ، كما تظهر في الصفحة فواصل الآيات, وقد زينت بشكل أزهار دائرية زرقاء، ونلاحظ علامة التعشير وهو حرف الياء في هذه الفواصل، وهذه الوثيقة من النوادر جداً، ومن المعروف أن الكتابة بالذهب كانت تقتصر على مصاحف الخلفاء والأمراء فحسب، ولقد ضاعت معظم صفحات الصحف، ولم يبق منها سوى هذه النادرة.
ونلاحظ دقة وإتقان الحروف التي توحي ولكأن كاتبها قد خطها بمسطرة.
ونقرأ في هذه الوثيقة من سورة "ق" ومن الآية السادسة من قوله تعالى: ? أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ?6? وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ?7? تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ?8? وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ?9? وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ?10? رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ?11? كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ?12? وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ?13? وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ?14? ? [ق: 6: 14].
إن ما صنعه الخطاط في هذه الوثيقة أن أجرى تعديلاً وتطويراً في حركة التنوين حين يأتي مكسوراً، فقد نقطه باللون الأزرق وبدائرتين متجاورتين، وهذا ما لا نبصره في جميع المصاحف، إذ لم يقتصر على تغيير اللون فحسب، وإنما وضع النقطتين متجاورتين، وإن في هذه الصفحة من الإتقان ما هو عجيب ينم عن صبر طويل وجلد، فقد وضع في الصفحة عشرة أسطر، وانتقى الصفحات مستطيلة الشكل كما جرت العادة في المصاحف الأولى.
ومن المصاحف الكوفية المذهبة وصلتنا وثيقة هامة لما تحويه من غلظ القلم أثناء الكتابة وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذا المصحف كتب لأمير أو لسلطان طاعن في السن، ويدل عليه حجم القلم الذي كتب فيه كي يبصر القارئ بوضوح كلمات الله في كتابه المجيد.
وقد صورت الكلمات كما جرت العادة بمداد السناج وبلون بني.
وخطت الآيات على الرق، وجعلت الفواصل باللون الأزرق، وكتب بداخل الفاصلة رقم الآية حرف لام، ويوازي رقم ثلاثين في حساب الجُمَّل، ثم وضع الرقم كتابة على الحاشية، وهذا تطوير جديد في ترقيم المصحف، إذ كنا نشاهد فيما مضى علامات التخميس والتعشير فحسب، وليس من أرقام على صفحات القرآن العظيم.
ونقرأ في هذه الوثيقة آيات من سورة العنكبوت من قوله تعالى: ? وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ?31? قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ?32?? [العنكبوت: 31، 32].
تعود هذه الوثيقة إلى القرن الثالث الهجري وهي من القيروان، وقد مضى على كتابتها أكثر من ألف سنة، وما زالت تحتفظ ببريقها وجدتها، وكأنها كتبت حديثاً وذهبها يضيء ولكأنه ثقل حديثاً، وتوجد صفحة أخرى من هذا المصحف النادر الذي عفت عليه القرون وضاعت صفحاته ضمن مجموعة متحف مدينة "سان بيتر سبورج".
ومن الصفحات النادرة أيضاً التي جاءتنا من القرون الخالية صحيفة من مصحف شريف متميز بالخط الكوفي المذهب على الرق المصبوغ بالنيل الأزرق الداكن دون علامات تشكيل، ووضعت فواصل آياته على شكل دائرة بالفضة، وهذه الوثيقة فيها ملامح ومعالم بداية استقرار صنع الألوان المجردة التي ترمز إلى السماء الزرقاء، واستعمل الذهب للكتابة ليؤدي دور التضاد في اللون مما يبهج العين ويعجب به المتأمل.
وتعود هذه الصفحة للقيروان، ومن مطلع القرن الرابع الهجري، وينسبها بعض الخبراء للقرن الثالث، وقد خطت لأحد الحكام الفاطميين.
ونقرأ في هذه الوثيقة آيات من سورة آل عمران من قوله تعالى: ? لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?188? وللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?189? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ ?190? الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?191? رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ?192?? [آل عمران: 188: 192].
إن التناسق في ترتيب السطور جاء مدروساً بأبعاده وأحجامه، ولا شك أن الكاتب قد عانى في صبره وهو يخط هذه الآيات على أرضية زرقاء قاتمة، وكل ذلك تقرباً إلى الله -سبحانه وتعالى- في حفظ تدوين كتاب الله -عز وجل- بأبهى حلة وأجمل شكل.
وفي الوثيقة التي جاءتنا من القيروان وهي هامة؛ لأنها توضح كتابة وتدوين القرآن العظيم في الفترة التي سبقت تطوير الخط المغربي، ولأنها خطت بالخط الكوفي المغربي، ونلاحظ في حروفه هيكل الحرف الذي مال فيما بعد إلى الليونة.
خطت هذه الوثيقة على الرق، ودونت بمداد بني قاتم داكن، ولونت علامات التشكيل بالأحمر دون أن تكون هناك فوارق بألوان النقط، ونحن نعلم أن المغرب استعملت فيه النقطة الصفراء لهمزة القطع، ونراها في هذه الوثيقة وقد نقطت باللون الأحمر على طريقة أبي الأسود، وما هو جديد في حروف هذا الخط الكوفي المغربي أن الكاتب قد جنح إلى الليونة والانضجاع في حروف الياء والنون، ونقط الحروف المعجمة على طريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي مع شيء من التطوير.
ونقرأ في هذه الوثيقة من قوله تعالى من سورة هود: ? فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ?27? قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ?28? وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ?29? وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ?30?? [هود: 27: 30].
إن هاتين الصفحتين من القرآن العظيم هما في حالة حسنة، وهما ضمن مجموعة متحف مقاطعة "لوس أنجلوس".
وقد قامت الدراسات على هذه الوثيقة لتبيان التطورات التي جرت على رسوم الكتابة في المغرب العربي، والتي وصلت إلينا في هذا العصر على الطريقة اللينة المبسوطة.
ومن المصاحف النادرة التي خطت في العصر السلجوقي وصلتنا ثلاث صحائف من مصحف شريف كتب على الورق وبالخط الكوفي البديع، الذي يسميه علماء الكتابة من المستشرقين، الخط الكوفي المشرقي.
ونلاحظ في هذه الوثائق تغير قطع المصحف، وتطوره من شكل المستطيل الأفقي إلى الطولي، وفي الصفحة ستة أسطر، وقد أحيطت أسماء السور بزخارف ذهبية زاخرة، حيث تمتد أطرافها إلى هامش الصحائف بسعيفات ذهبية زرقاء.
انتشر هذا الخط الجميل في أحضان القرآن العظيم بعد ظهور الورق، ورافق تطوره تطور الزخرفة واتباع القطع الرأسي.
كل هذه التطورات بدأت منذ القرن الخامس الهجري، ونلاحظ في هذه الوثيقة مرصعة فيها نوع الصورة وهي مكية، كما نلاحظ جمال الخط الكوفي في رسم اسم السورة، وقد صاحبته الزخارف تنم عن ذوق رفيق لأشكال ورقة التين.
ونقرأ في الصفحة الأولى من نهاية سورة التحريم من قوله تعالى: ? وَمَرْيَمَ ابْنتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ?12??[التحريم: 12]، ثم نقرأ اسم السورة التي تليها وهي سورة "الملك" ثلاثون آية، ثم بسم الله الرحمن الرحيم، وفي الصفحة الثانية نقرأ من نهاية سورة القلم من قوله تعالى: ? وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ?51? وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ?52?? [القلم: 51، 52].
ثم نشاهده شكلاً جمالياً زخرفياً وقد قسم إلى جدولين، في الجدول الأول اسم السورة "سورة الحاقة"، وفي الوسط كلمة "خمسون" وفي الجدول الثاني "وآية مكية" والسورة هي اثنتان وخمسون آية مكية على رواية حفص، ثم نقرأ من سورة الحاقة، بسم الله الرحمن الرحيم ? الْحَاقَّةُ ?1? مَا الْحَاقَّةُ ?2?? [الحاقة: 1: 3].
وننتقل إلى الصفحة الثالثة ونشاهد فيها غنى الزخرفة في رأس السورة، وهذا يدل على أن القرآن هذا لو وجد لرأينا فيه غنى في الزخرفة الإسلامية؛ لأن المذهب استخدم أشكالاً لكل سورة يختلف فيها الاسم ضمن تكوينات جديدة ساحرة مذهبة.
كما نلاحظ المرصعات التي على حواشي المصحف، فاستخدم المذهب أيضاً فواصل مروحية بين الآيات، مستمدة من مراوح النخل، وفيها أرقام الآيات على حساب الجُمَّل.
ونقرأ في رأس السورة اسم سورة "الإنسان" ثلاثون، ثم ننتقل إلى الجدول الثاني الذي رسمه على شكل مثمن دائري وفيه وآية مكية وبذلك يكون عدد الآيات لهذه السورة إحدى وثلاثون.
ونقرأ في هذه الوثيقة بسم الله الرحمن الرحيم: ? هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ?1? إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ ... ? [الإنسان: 1، 2] لقد كتبت هذه الصفحات من هذا المصحف النادر بمداد لون بني قاتم، كما زاوج في شكله بين طريقتين ومنهجين حين قرن أسلوب أبي الأسود بأسلوب الفراهيدي، ونقط الكلمات باللون الأحمر، ووضع الشدات والسكون باللون الأزرق، صفحات من قرآننا العظيم تحدثت عنها القرون، وحملتها الصدور عبر ألف وأربعمائة عام.
ظهر في وقت متأخر مصطلح الرسم المصحفي والرسم العثماني في المؤلفات التي اهتمت بموضوع خط المصحف وصار مصطلح الرسم يهتم بكيفية كتابة الكلمات في المصحف، ولم يحدث لكتاب في تاريخ البشرية أن نقل عناية التامة والاهتمام من حيث كتابته ورسم حروفه ومن حيث تلاوته وتحقيق قراءته ومعرفة أحكامه وبيان معانيه كالقرآن العظيم.
فقد روى علماء الرسم وسجلوا في كتبهم وصف هجاء كل كلمة وردت في المصحف، خاصة تلك التي تميزت برسم معين، إذ ما إن وصلت المصاحف التي كتبت في المدينة في خلافة الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الأمصار الإسلامية حتى سارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها حرفاً بحرف، وكلمة بكلمة، وإقامة مصاحفهم بعرضها عليها.
وكما اشتهر أئمة بقراءة القرآن العظيم وإقراءه في الأمصار كذلك اشتهر أئمة بضبط اسمه والكتابة على ما جاء في المصحف الإمام الذي وجه إليهم.
وبذلك قامت المصاحف المنسوخة من الأمهات مقام الأصول، وما إن بدأ عصر التدوين في القرن الثاني الهجري حتى سارع أئمة الضبط في رسم كلمات المصحف إلى تدوين هذا العلم، وتسجيل ذلك في كتب أصبحت الأساس لسور الكلمات في المصاحف، ومرجعاً لمن أراد أن يخط مصحفاً بالإضافة إلى ما تبقى من المصاحف المنسوخة.
وظهر علماء في مختلف الأمصار يعملون في ميدان علم رسم المصحف ويقارنون بين المصاحف المكية والمدنية، ومصاحف أهل الشام والعراق.
وظهر في كل مصر من الأمصار إمام روى ما جاء في مصحف بلده، وأئمة القراءات كانوا يروون كيفية رسم الكلمات إلى جانب روايتهم للقراءة، وكانت مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- داراً للقرآن وقراءاته ورسمه، فكان ممن روي عنهم الرسم من أهل المدينة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، المتوفى سنة 117 هجرية.
ومن أهم من نقل رسم كلمات القرآن العظيم إمام المدينة في الرسم نافع بن عبد الرحمن بن أبي النعيم، المتوفى سنة 169 هجرية، وهو أحد القراء السبعة الأعلم، وهو من أهم من نقل رسم المصحف.
ولد بالمدينة وأقرأ الناس بها بكثير من القراءات، وعاش عمراً طويلاً، وكان مصحف عثمان -رضي الله عنه- الذي أعطاه لأهل المدينة يحتفظ به عنده، وقد حفظه برسمه عن ظهر قلب، وقرأ عليه خلق كثير، فقد أقرأ الناس أكثر من سبعين سنة، وشرق تلامذته وغربوا، ونقلوا عنه علوم رسم كتابة المصحف.
ومنهم سليمان بن مسلم بن جماز، المتوفى سنة 170 هجرية، وإسماعيل بن جعفر المدني المتوفى سنة 180 هجرية، وعبد الله بن وهب المتوفى سنة 197 هجرية، والغازي بن قيس الأندلسي المتوفى سنة 199 هجرية، وعيسى بن مينا قالون المتوفى سنة 220 هجرية، وفي البصرة كان أبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 إماما في الرسم، وفي الكوفة كان أبي عمارة حمزة بن حبيب الزيات المتوفى سنة 156 من أئمة الرسم أيضاً، وفي دمشق كان أبو الدرداء المتوفى سنة 132 هجرية إماماً في الرسم.
أخذ عنه عبد الله بن عامر المتوفى سنة 118 هجرية، وجاء هشام بن عمار المتوفى سنة 245 فأخذ الرسم عن ابن عامر وكان إمام أهل دمشق في زمانه.
هؤلاء هم أئمة الرسم وعماد الرواية، ينقلون كلمات المصحف العظيم كما هي، وألف ابن عامر والكسائي والفراء كل منهم كتاباً في علوم فن رسم رموز وكلمات المصحف الشريف.
ظلت المصاحف إلى جانب روايات الأئمة المصدر لدراسة رسم كلمات المصحف، والمؤلفون يروون الروايات المتقدمة، ويعقبون بأنهم رأوا ذلك في مصحف بلدهم، والمصاحف المخطوطة في الزمن الأول خير شاهد ودليل، وأفضل معين وأصدق رواية عن طريقة رسوم كلمات المصحف العظيم، والتي لا يمكن أن يغفلها أمام روايات وكتابات المدونين لعلوم الرسم المصحفي.
يطلق على الرسم المصحفي الذي كتبت به حروف القرآن العظيم وكلماته اسم الرسم العثماني نسبة إلى سيدنا عثمان -رضي الله عنه- وهذا لا يعني أن الخليفة عثمان -رضي الله عنه- قد وضع رسوم المصحف وهيئة كلماتها، وإنما هو الذي أمر أن يجمع في عهده ويخط من المصحف الأم الذي خط زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجمع لأول مرة زمن الخليفة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ولا فضل لعثمان في الرسم إلا أمره بالجمع بعد أن أخذ مشورة الصحابة، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، الذي كان يقول دائماً: « لا تقولوا في عثمان إلا خيراً فوالله ما فعل الذي فعل بالمصاحف إلا بأمر منا ».
وفي الرسم هذا لا يطابق المنطوق المكتوب، والرسم يتحمل أكثر من وجه، وأكثر من صورة منطوقة، لقد ألفت كتب كثيرة في علم الرسم المصحفي هذا من حيث هو علم، وفي ذلك اهتمام عظيم للقرآن العظيم فهو كلام رب العرش -جل وعلا- الذي سيظل في الأرض حتى يرثها ومن معها.
ألف السجستاني أبو حاتم المتوفى سنة 255 هجرية كتاباً في اختلاف هجاء المصاحف، وألف أبو عمرو الداني المتوفى سنة 444 هجرية كتاب "المقنع والمحكم"، وألف سليمان بن نجاح المتوفى سنة 496 هجرية كتابه "التنزيل"، وألف أبو العباس المراكشي المعروف بابن البناء المتوفى سنة 721 هجرية سفره النفيس الذي يعد من أندر الرسالات في موضوعه وهو كتاب "عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل" .
يقول ابن وثيق الأندلسي المتوفى سنة 654 هجرية: « اعلم وفقك الله أن رسم المصحف يفقتر إلى معرفة خمسة فصول عليها مداره أولها: ما وقع فيه من الحذف، وثانياً: ما وقع فيه من الزيادة، وثالثها: ما وقع فيه من قلب حرف إلى حرف، ورابعها: أحكام الهمزات، وخامسها: ما وقع فيه من القطع والوصل ».
ويعرف الخط بأنه تصوير اللفظ بحروف هجائه، ومن هنا كان الأصل في كل مكتوب أن يكون موافقاً تماماً للمنطوق به زيادة ونقصاً وتغييراً، إلا أن هذا الأصل خولف كثيراً في المصحف المكتوب، وظل مصطلح الرسم القرآني مستقلاً بنفسه، جارياً في بعض ألفاظه على غير قياس، غير متأثر ببعض القواعد الهجائية القديمة أو المستحدثة، وقد نشأ بسبب اختلافات الرسم الإملائي لما هو منطوق علم الرسم القرآني و ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ? [الفرقان: 1]، بسورة الفرقان، و ? تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا ? [الفرقان: 10]، في سورة الفرقان، و ? فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ? [غافر: 64] بسورة غافر.
ونشاهد الألف المحذوفة في الآيات ? وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ ? [الرعد: 4]، في سورة الرعد، ? وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ ? [النحل: 11] في سورة النحل، ? وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ? [النحل: 67]، في سورة النحل أيضاً, و? حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ?32?? [النبأ: 32] في سورة النبأ، وهي مثبتة في قوله تعالى: ? أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ? [البقرة: 266]، في سورة البقرة.
ونشاهد أيضاً حذف الألف في قوله تعالى: ? سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ? في كلمة ? سُبْحَانَكَ ? في الآية الثانية والثلاثين من سورة البقرة، وفي ? سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?[آل عمران: 191] في سورة آل عمران، وفي ? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ? [الإسراء: 1]، في سورة الإسراء، وفي ? سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ ? [الإسراء: 43] في سورة الإسراء، وفي ? سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ? [الإسراء: 108] في سورة الإسراء أيضاً.
بينما نشاهد الألف مثبتة في قوله تعالى: ? قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ? [الإسراء: 93] في سورة الإسراء، ومما نشاهد في الاختلاف أيضاً كتابة حرف التاء، وفي أغلب المواضع تاءً مبسوطة في قوله تعالى: ? أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ ? [البقرة: 218] في سورة البقرة، و ? رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ? [هود: 73] في سورة هود، و ? ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ? [مريم: 2] في سورة مريم، و ? إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ ? [الروم: 50] في سورة الروم، و ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ? [الزخرف: 32] في سورة الزخرف، و ? رَحْمَت رَبِّكَ ? [الزخرف: 32] في سورة الزخرف.
قال الزركشي: « إن اتباع حروف المصحف كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها، لقد تبع علماء الرسم المصحفي الكلمات التي يختلف رسمها عن نطقها، وعللوا لها بما يعرف منه أن مرجع الخلاف هو ما في الكلمات من قراءات يحتملها الرسم، أو ما فيها من قراءات واحدة يستدعى أن تكتب بسورتها التي لا تحتمل ما سواها.
وهذا نظام الدين النيسابوري ينقل عن جماعة من الأئمة قولهم: إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد بن ثابت، وكان أمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكاتب وحيه، وعالماً من هذا العلم بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يعلم غيره، فما كتب شيئاً من ذلك إلا لعلة لطيفة وحكمة بليغة، ألا ترى أنه لو كتب على صلواتهم أو إن صلاتك بالألف بعد الواو أو بالألف من غير واو لما دل ذلك إلا على وجه واحد وقراءة واحدة.
وكذلك ? وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ? [الرعد: 42] تكتب: "وسيعلم الكفر" بغير ألف ألف قبل الفاء ولا بعدها، ليدل على القراءتين.
وإن في الرسم العثماني المصحفي فوائد:
منها: الدلالة على الأصل والشكل والحروف لكتابة الحركات حروفاً باعتبار أصلها في نحو ? وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ? [النحل: 90]، و? سَأُرِيكُمْ ? و ? الصَّلاَةِ ? بالواو بدل الألف، و ? الزَّكَاةَ ?بالواو بدل الألف أيضاً.
ومنها: النص على بعض اللغات الفصيحة ككتابة هاء التأنيث تاءً مجرورة على لغة طيء، وكحذف ياء المضارع لغير جازم فيه ? يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ... ? [هود: 105]، على لغة هذيل.
ومنها إفادة المعاني المختلفة بالقطع والوصل في بعض الكلمات في قوله تعالى: ? أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ? [النساء: 109]، و ? أَمَّن يَّمْشِي سَوِيًّا ? [الملك: 22]، فإن قطع "أم" عن "من" يفيد معنى "بل" دون وصلها بها.
وفي قوله: ? مَا كُنَّا نَبْغِ ? [الكهف: 64]، في سورة الكهف، فمع إجماع كتاب المصاحف على كتابتها بغير ياء بعد الغين، فقد اختلف القراء في إثبات الياء وحذفها، فأثبتها وصلاً نافع وأبو عمرو، وأبو جعفر، والكسائي, وأثبتها وصلاً ووقفاً ابن كثير ويعقوب، وحذفها وصلاً ووقفاً ابن عامر وعاصم وحمزة وخلف، وهذه الياء حذفت رسماً للتخفيف، فمن قرأ بحذفها وافق الرسم تحقيقاً، ومن قرأ بإثباتها وافق الرسم تقديراً، والأصل إثباتها؛ لأنها لام الكلمة.
وفي قوله تعالى: ? وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ... ? [البقرة: 9] في سورة البقرة فيه اختلاف في القراءات فقرأها "يَخْدَعون" بفتح الياء، وإسكان الخاء، وفتح الدال، كل من ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وأبي جعفر ويعقوب، وقرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو "يُخَادِعون" بضم الياء وفتح الخاء وألف بعدها، وكسر الدال.
وفي قوله: ? وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ? [الأنعام: 115]، فقد اتفق كتاب المصاحف على كتابتها بحذف الألف بعد الميم، وبالتاء المبسوطة بعدها، واختلف فيها القراء، فقرأها عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب بالإفراد "كلمة"، وقرأها بالجمع "كلمات" نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر.
هذا هو الرسم المصحفي خط ووصل عبر القرون بهذه الهيئة لحكمة أرادها الله.
? وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ? [البقرة: 138]. |
|
|
| |
|